كله خير

  •    بقلم : د . ياسر بهاء

    استغربت كثيراً ممن قالوا "شكراً كورونا" حتى وإن كان القصد هو فوائد ومزايا الوضع الحالي فليس من الطبيعي أن نشكر العدو على اتحادنا أو نشكر المرض على تعرفنا على نعمة الصحة أو نشكر السارق على تنبيهنا لوجود خلل في النظام الأمني. نعم حدثت زيادة في الوعي ولكن ليس بفضل الفيروس!

    لأول مرة منذ أن وُلدت أن أتعرض لحدث لا يتحدث عنه أو لم يتأثر به الكبار والصغار، الأغنياء والفقراء، الأصحاء والمرضى، بل العالم بأكمله بما لا يدع مجالاً للشك أن ما يحدث الآن هو بمثابة إنذار شديد اللهجة للتأكيد على بعض المفاهيم والأفكار والمعتقدات التي وصلت إلى مرحلة اللا نقاش فلا أعتقد أن هناك من كان لديه شك أن المال كان الهدف الأسمى لمعظم الأفراد والمؤسسات، بل والدول أيضاً؛ أما الآن فمجرد البقاء على قيد الحياة أصبح الأهم من أي وقت مضى.

    لقد تغير العديد من المفاهيم وأصبح لدى الجميع وجهات نظر مختلفة بعضها متشابه ومتناسق وبعضها مخالف ومتناقض ولكن في النهاية الشيء المتفق عليه أننا في فترة ازدياد الوعي وأصبحت الرؤيا واضحة للعديد من النقاط التي كانت من المسلمات ولكن جاءت الأزمة الحالية لتثبت للجميع أن كل ما تعلمناه ونشأنا عليه ما زال قابلا للتغيير والتساؤل عن مدى صحته وفعاليته.

    مما لا شك فيه أن ما نحن عليه الآن يحمل العديد من التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتغيير في خريطة العالم ولكن العالم في حد ذاته يتكون من أفراد وهم أنا وأنت ومن حولنا فما هو حالنا الآن؟ في بادئ الأمر اختلفنا في انطباعاتنا وفهمنا لما يحدث فالبعض اعتقد أن المسألة خطيرة جداً وأن نهاية العالم اقتربت وآخرون لم يهتموا بما يحدث وتعاملوا معه بكل استهانة واستخفاف ولكن ظهرت فئة تعاملت مع الواقع باحترافية وبدأت تضع السيناريوهات المختلفة منها المتفائل والمتشائم وأيضاً المتحفظ ولكن مع اختلاف الأفعال اجتمعوا جميعاً الآن على أهمية التعامل بحذر شديد مع هذا العدو الواضح الخفي.

    تغيرت العادات وتقبلنا ما لم نتقبله من قبل سواء بإرادتنا أم بالإجبار وليس هناك من لم ولن يتضرر مما نحن عليه الآن ولكن هناك من سيسعى لتطويع الوضع الحالي فيما يمكن الاستفادة منه وهناك من سيستمر في الشكوى – حتى وإن كان فعلاً لديه بعض الحق في الشكوى نتيجة ظروفه القاسية التي يتعرض لها حالياً من نقص في الموارد المالية أو التعرض لأزمة صحية أو ما شابه – وهناك من فقط ينتظر انفراج الأزمة. في النقاط التالية استعرض بعض الخواطر التي تجول بخاطري دائماً منذ بدء تلك الأزمة وأشاركها معكم لعلها تحمل بعض النقاط المضيئة في خضم ما تحمله الأخبار من معلومات ونتائج ليس الكثير منها بالمحفز أو المشجع.

    ما كان يعتقد البعض أنه مستحيل أصبح هو الواقع: كنت لا أتحمل يوماً في المنزل دون الجلوس مع الأصدقاء في المقهى والآن أنا في البيت. كنت لا أستطيع عدم الذهاب إلى الجيم والآن أنا في البيت. كنت لا أتحمل الجلوس مع أبنائي ومتابعة دراستهم والآن أنا في البيت.

    معظم جوانب الحياة تغيرت من أنشطة وترفيه ووظائف وبيع وشراء وتم تغيير ترتيب الأولويات اليومية وتم تحديد ما يمكن فعله في أوقات محددة شئنا أم أبينا.

    ظهرت بعض المفاهيم الجديدة مثل العمل عن بعد والتدريب عن بعد والاجتماعات عن بعد والدراسة عن بعد وأصبح الحديث عنها شيء طبيعي بينما كان تقريباً غير مطروح للنقاش أساساً قبل تلك الأزمة.

    اكتشفنا أنه ما زال الممنوع مرغوب فمن كان يتمنى وفرة الوقت يشتكي منها الآن ومن كان يتمنى أن يرتاح قليلاً بدأ يشتكي من بطء الحياة اليومية ومن كان يشتكي من الزحمة المرورية يتمنى أن يعلق بها الآن فقط للخروج من المنزل.

    اختلفت القيم فمنها من اعتلى قمة القائمة مثل الصحة والعائلة والروحانيات ومنها من تراجع مثل الاستمتاع والترفيه والثروة وغيرها حيث بات واضحاً للجميع أنه لا يصح إلا الصحيح مهما طال الزمن أو تشوهت القيم.

    هناك من يتعامل مع الوضع الحالي مثله كمثل أي ظروف يتعرض لها ويجب عليها تقبلها ومع ذلك لا يرضى بها بل ويشتكي دائماً من كل ما يحدث حتى ولو على سبيل المزاح بل ويشتكي مما كان يتمناه من قبل.

    وهناك من يجد فيما يتعرض له الحين فرصة لالتقاط الأنفاس ومراجعة الذات فيما كان يسعى إليه وإعادة توجيه الطاقات والموارد إلى أهداف أكثر فعالية وأرقى أخلاقياً.

    من أهم آثار زيادة الوعي هو الشعور الحقيقي بالامتنان لنعم الله العديدة التي كنا نتعامل معها وكأنها دائمة ولكن تأكدنا أن كل شيء يمكن أن يختفي في أي وقت متى أراد الله ذلك وما نملكه فقط هو أنفسنا وأفكارنا وقدرتنا على الامتنان.

    الإدراك بأن البيئة لو تكلمت لاستمعنا إلى أبشع الألفاظ ولكنها الآن تتمنى أن نكون قد استوعبنا الدرس وأن تكون الأيام القادمة بعد الانتهاء من تلك الأزمة تحمل رد فعل إيجابي تجاه سلوكياتنا في التعامل مع مفردات الحياة المختلفة.

    وبما أن هناك الكثير من المبادرات والأفكار لاستغلال الوقت المتوفر حالياً والذي كنا نشتكي من قلته جميعاً فعلى كل فرد ألا يجعل هذه الفترة فقط راحة سلبية بدون إدارتها بشكل جيد حتى عندما يتكلم عليها مستقبلاً بإذن الله يذكر مدى ما حقق من إنجازات واكتساب مهارات وقدرات جديدة وبدء فصول مختلفة في كتاب الحياة ويتسلح بالعلم والحلم والدين ولا يتحدث فيما ليس له به علم حتى لا يكون ممن يتحدث فيما لا يعلم وبما لا يفهم والذي أسماه الرسول صلى الله عليه وسلم بالرويبضة وهو "الرجل التافه يتكلم في أمر العامة" وختاماً فإن هذه الأيام بإذن الله ستمضي وواجب علينا أن نتذكر دائماً قول الرسول صلى الله عليه وسلم "عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ".

     



    حمّل تطبيق Alamrakamy| عالم رقمي الآن