بقلم : رانيا جول
كبير محللي الأسواق في XS.com - منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
يشهد سوق العملات المشفرة مرحلة دقيقة تتسم بالمزيج بين التفاؤل الموسمي والحذر الاقتصادي، حيث تجاوز سعر بيتكوين مستوى 114 ألف دولار أمريكي يوم أمس الاثنين بعد أن كان قد تراجع إلى 108 آلاف دولار في نهاية الأسبوع السابق. وهذا الارتداد يعكس ثقة إيجابية لدى المستثمرين، وإن كانت محاطة بدرجة واضحة من الحذر، خصوصًا مع اقتراب شهر أكتوبر المعروف تاريخيًا في الأوساط المشفرة بمسمى “Uptober” الذي غالبًا ما يتزامن مع موجات صعود قوية. ورغم أن مثل هذه الظواهر الموسمية لا يمكن التعويل عليها كضمان، فإنها تعزز نفسية المتداولين وتدفعهم إلى إعادة تموضع استباقي في السوق، مما يفسر قدرة البيتكوين على الحفاظ على مكاسبها رغم ضبابية المشهد الاقتصادي العالمي.
وبالنسبة لي أرى البيانات الفنية تؤكد هذا المزاج المتقلب؛ حيث انخفض مؤشر القوة النسبية (RSI) من مستوى 60.7 إلى 34.6، وهو هبوط حاد يعكس ضغوط بيع قوية بلغت ذروتها قبل أن تتراجع. وعادةً ما تُفسر مثل هذه المستويات كإشارة إلى استنزاف البائعين واحتمال قرب استقرار أو انعكاس صعودي قصير المدى، وهو ما تحقق مبدئيًا في حركة السعر الأخيرة. ومن وجهة نظري، يشير هذا التغير السريع في المؤشرات الفنية إلى أن السوق قد يكون بصدد تكوين قاعدة دعم جديدة، لكن اختراق مستويات مقاومة أعلى سيظل ضروريًا لتأكيد بداية موجة صعود طويلة الأمد.
وهذا التحسن لم يقتصر على السوق الفوري فحسب، بل امتد إلى سوق العقود الآجلة الدائمة، حيث ارتفعت قيمة الفائدة المفتوحة من 42.8 مليار دولار إلى 43.6 مليار دولار، في إشارة إلى زيادة شهية المستثمرين للمخاطرة. كما قفز سهم Deribit بنسبة 13%، وارتفع تحيز الشراء طويل الأجل في منصة Hyperliquid إلى 57% مقابل 36% في الأسبوع الماضي، وهذه المؤشرات تعني أن المستثمرين المؤسسيين والأفراد على حد سواء بدأوا يتخذون مراكز تفاؤلية، لكن من دون اندفاع غير محسوب. وأرى أن هذه التحركات قد تمثل بداية تراكم مراكز قوية استعدادًا لأي مفاجآت في أكتوبر، لكنها في الوقت ذاته تفرض مراقبة دقيقة لتدفقات السيولة من أجل تجنب فخ الارتفاعات المؤقتة.
ورغم إشارات الانتعاش هذه، يظل الحذر عنوان المرحلة الحالية. لأن سوق الخيارات، التي غالبًا ما تعكس مزاج المستثمرين الحقيقي تجاه المخاطر، لا تزال تُظهر حالة من التردد، ما يعني أن الرهان على استمرار الصعود لم يتحول بعد إلى قناعة جماعية. وهذا التردد مفهوم في ظل حالة عدم اليقين الاقتصادي في الولايات المتحدة، حيث تتزايد التوقعات حول احتمال إغلاق الحكومة وما قد يترتب على ذلك من تأجيل صدور بيانات الوظائف غير الزراعية المرتقبة يوم الجمعة. فمثل هذه البيانات تُعد ركيزة أساسية لتوقعات الاحتياطي الفيدرالي بخصوص السياسة النقدية، وأي تأجيل أو اضطراب في صدورها قد يدعم تقلبات أكبر في الأسواق، بما في ذلك البيتكوين.
لكن على الرغم من هذه المخاطر، يبدو لي أن الأسواق المالية الأمريكية، بما فيها وول ستريت، تحافظ على قدر من الثبات، وهو ما ينعكس بدوره على العملات المشفرة. فالمستثمرون، ظلوا “غير منزعجين نسبيًا” رغم تصاعد المخاوف من الإغلاق الحكومي. ومن وجهة نظري، يمكن تفسير هذا الهدوء على أنه تعبير عن قناعة متزايدة بأن أي اضطرابات حكومية ستكون قصيرة الأمد، أو أن الاحتياطي الفيدرالي سيبقى مستعدًا للتدخل عند الحاجة. وهذه القناعة تعزز من قدرة البيتكوين على امتصاص الصدمات الآنية، لكنها لا تلغي احتمالية حدوث تذبذبات حادة في حال جاءت بيانات الوظائف بخلاف التوقعات أو تأخر صدورها.
وعلى المدى القصير، يظل مستوى 115 ألف دولار حاجزًا نفسيًا وفنيًا بالغ الأهمية. فاختراق هذا السقف من شأنه أن يؤكد استمرار الاتجاه الصعودي ويفتح الباب أمام استهداف مستويات أعلى قد تتجاوز 120 ألف دولار إذا ما دعمتها تدفقات قوية من صناديق الاستثمار المتداولة. ودخول المؤسسات المالية عبر هذه الصناديق سيبقى العامل الأهم في تحديد اتجاه السوق خلال الأسابيع المقبلة، خصوصًا مع اقتراب Uptober الذي تاريخيًا يجذب سيولة جديدة ويزيد من زخم الطلب.
أما على المدى المتوسط، فإن شهر أكتوبر يحمل في طياته أكثر من مجرد تفاؤل موسمي. فالتاريخ يشير إلى أن هذا الشهر غالبًا ما يشهد تحولات في السياسة النقدية أو مفاجآت اقتصادية تدفع المستثمرين إلى البحث عن أصول بديلة للتحوط، وهو ما يجعل البيتكوين مرشحًا قويًا للاستفادة من أي اضطرابات في أسواق الأسهم أو السندات. ومع ذلك، فإن استمرار الصعود يتطلب أكثر من مجرد عوامل نفسية؛ إذ يجب أن تدعمه بيانات اقتصادية تعزز شهية المخاطرة وتؤكد أن الفيدرالي يقترب من إنهاء دورة التشديد النقدي.
لذا أرى أن البيتكوين يقف عند مفترق طرق يجمع بين فرص نمو قوية ومخاطر لا يمكن تجاهلها. فالتقلبات المرتقبة في الأسبوعين المقبلين قد تمثل فرصة للمستثمرين الذين يجيدون قراءة السوق، لكنها في الوقت ذاته تحذر من مغبة الانجرار وراء موجات الصعود دون استراتيجيات إدارة مخاطر محكمة. و Uptober قد يحمل بالفعل ارتفاعات تاريخية، لكن نجاح هذه التوقعات سيعتمد على مزيج من العوامل الفنية، تدفقات المؤسسات، وهدوء المشهد السياسي الأمريكي. وحتى تتضح هذه الصورة، سيبقى الحذر المدروس هو الخيار الأمثل لكل من يترقب الخطوة التالية لأكبر عملة رقمية في العالم.