بقلم : رانيا جول
كبير محللي الأسواق في XS.com- منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
يشهد الذهب هذه الأيام حالة من التذبذب الحاد بين محفزات داعمة وأخرى ضاغطة، مما يضع المستثمرين أمام مشهد معقد لا يخلو من الغموض. فخلال الجلسة الآسيوية اليوم الثلاثاء، استفاد المعدن النفيس من بعض عمليات الشراء، مبتعداً عن أدنى مستوياته في أكثر من أسبوعين، لكنه سرعان ما فقد زخمه وسط غياب الثقة الصعودية. والسبب لا يعود فقط إلى الترقب المحيط بقرارات السياسة النقدية الأميركية، بل أيضاً إلى البيئة الجيوسياسية التي تبعث رسائل متناقضة بين الخطر والتهدئة.
ومن الواضح أن توقعات على خفض أسعار الفائدة من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي لا تزال حجر الزاوية في حركة الذهب. والتوقعات تشير إلى احتمال قوي لخفض بمقدار 25 نقطة أساس في سبتمبر، مع بقاء الاحتمال قائماً لخفض آخر قبل نهاية العام. مثل هذه التوقعات تُعد في جوهرها داعماً رئيسياً للذهب، إذ يقلّص تراجع العوائد الحقيقية جاذبية الدولار والسندات، ويعزز الطلب على الأصول غير المدرة للفائدة. غير أن الصورة ليست بهذه البساطة، فبيانات أسعار المنتجين والتضخم الأميركي الأخيرة جاءت أقوى من المتوقع، مما يثير مخاوف من أن الفيدرالي قد يتريث أو يبطئ وتيرة التيسير النقدي. وفي رأيي، هذه الإشارات المتباينة ستبقي الذهب في حالة تذبذب على المدى القصير، ما لم يبعث جيروم باول في جاكسون هول برسالة واضحة وحاسمة حول مسار السياسة النقدية.
وعلى الرغم من أن الدولار استفاد من هذه البيانات وتماسك عند مستويات قوية، إلا أن هذا التماسك لم يتحول بعد إلى اتجاه صعودي متماسك. فالأسواق تبدو مترددة: فمن جهة هناك إدراك بأن التضخم لا يزال مرتفعاً، ومن جهة أخرى لا يمكن تجاهل علامات التباطؤ الاقتصادي التي قد تدفع الفيدرالي إلى خفض الفائدة عاجلاً أو آجلاً. وهذه المعضلة تصب في صالح الذهب جزئياً، إذ تمنع الدولار من الانطلاق بشكل يضغط على المعدن بشكل حاد، لكنها في الوقت ذاته تحرم الذهب من محفز صعودي قوي وواضح. وتقديري أن أي ضعف مفاجئ في بيانات النمو أو سوق العمل الأميركي سيشكل نقطة تحول لصالح المعدن الأصفر، بينما ستؤدي أي قراءة جديدة قوية للتضخم إلى الضغط عليه.
إلى جانب العامل النقدي، لا يمكن إغفال التطورات الجيوسياسية التي تُلقي بظلالها على السوق. فالأخبار المتداولة عن لقاء مرتقب بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إلى جانب الحراك الدبلوماسي الذي يقوده شركاء غربيون، أحيت آمال السلام وخففت من قلق المستثمرين. وهذا التطور يضغط على الذهب كملاذ آمن، إذ يحد من اندفاع الطلب الدفاعي الذي عادة ما يظهر وقت الأزمات. ومع ذلك، لا أرى أن هذا الملف قد حُسم أو أنه سيؤدي إلى تهدئة سريعة، فالتجارب السابقة تؤكد أن مسار السلام مليء بالعقبات. وعليه، قد يبقى الذهب محتفظاً بجزء من علاوة المخاطر الجيوسياسية، حتى مع بروز بوادر إيجابية على طاولة المفاوضات.
أما على صعيد التقييمات الائتمانية، فقد أبقت وكالة ستاندرد آند بورز تصنيف الولايات المتحدة عند مستويات مستقرة مع نظرة مستقبلية غير سلبية، رغم إشارتها إلى العجز المرتفع واقتراب الدين العام من 100% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذه الإشارة في تقديري تحمل بعدين: الأول أن الأسواق لن تواجه صدمة سيادية أميركية قريبة، وهو ما يقلل من الطلب الفوري على الذهب، والثاني أن الدين المتضخم سيبقى قنبلة موقوتة تضعف الثقة طويلة الأجل في الدولار وتعيد للذهب بريقه كأصل تحوطي استراتيجي. ومن هذا المنظور، أرى أن الذهب لا يزال محتفظاً بدور محوري في المحافظ الاستثمارية على المدى البعيد، حتى لو بقيت مكاسبُه ضعيفة في المدى القصير.
والأنظار تتجه الآن إلى حدثين رئيسيين سيشكلان ملامح المرحلة المقبلة: محضر اجتماع الفيدرالي وخطاب باول في جاكسون هول. والتوقعات تشير إلى أن الأسواق ستفتش بدقة عن أي إشارة توضح ما إذا كان البنك المركزي يميل إلى موقف أكثر تشدداً أو إلى مرونة أكبر تجاه خفض الفائدة. وأي ميل واضح نحو التيسير سيُطلق شرارة صعودية للذهب، وربما يعيده إلى مستويات أعلى من 3400 دولار للأونصة، بينما قد يؤدي تشديد اللهجة إلى إبقاء المعدن حبيس نطاق ضيق أو حتى دفعه إلى اختبار مستويات الدعم حول 3300 دولار. شخصياً، أميل إلى الاعتقاد أن باول سيحاول الموازنة بين التحديات، فيبقي الباب مفتوحاً أمام خفض محدود للفائدة مع التأكيد على التزامه بمحاربة التضخم، وهو ما يعني استمرار حالة الحذر والتذبذب في سوق الذهب.
وفي موازاة ذلك، لا يمكن إغفال البيانات الاقتصادية القادمة، مثل مؤشرات مديري المشتريات وصحة سوق الإسكان، والتي ستغذي التوقعات بشأن النمو العالمي. وإذا ما أكدت هذه البيانات وجود تباطؤ واسع النطاق، فستتزايد جاذبية الذهب كأصل وقائي، أما إذا جاءت قوية فقد تعزز الثقة بالدولار على حساب المعدن الأصفر. وهنا تكمن صعوبة التنبؤ بالاتجاه القريب: الذهب ليس في وضع يسمح له باختراقات قوية صعوداً أو هبوطاً، بل يتحرك في نطاق جانبي بانتظار محفز خارجي كبير.
وفي المجمل، أرى أن الذهب في المرحلة الحالية يعيش بين مطرقة الفيدرالي وسندان التفاؤل الجيوسياسي. والعوامل الداعمة للصعود موجودة لكنها غير حاسمة، والعوامل الضاغطة حاضرة لكنها ليست كافية لكسر مستويات الدعم. لذلك، التوقع الأكثر ترجيحاً هو بقاء المعدن محصوراً في نطاق يتراوح بين 3300 و3400 دولار للأونصة على المدى القريب، مع ميل طفيف نحو الهبوط في حال واصل الدولار استفادته من بيانات التضخم. غير أن أي إشارة مفاجئة من جاكسون هول، أو تعثر في جهود السلام بين روسيا وأوكرانيا، قد تغيّر الصورة جذرياً وتعيد إشعال بريق الذهب كملاذ آمن.