بقلم د. هبه صالح
رئيس معهد تكنولوجيا المعلومات " iTi "
تخيّل محاميًا يقف في قاعة المحكمة، لا ليجادل في نص قانوني تقليدي، بل ليُحاكم خوارزمية، أو يُراجع عقدًا ذكيًا نُفّذ تلقائيًا دون توقيع بشري، أو ليُدافع عن مواطن تضرر من قرار اتخذه نظام ذكاء اصطناعي دون وجه حق.
ليس مشهدا سينمائيا، لكنه واقع يفرض نفسه. نحن نعيش في زمن تتسارع فيه التكنولوجيا بسرعة الضوء، وتفرض علينا جميعًا—لا سيما صُنّاع القانون—أن نواكب هذا الجموح لا أن نزحف خلفه. لا بد أن يكون القانون شريكًا فاعلًا في تنظيم هذا الواقع، يرسم ملامحه، ويستعد لتبعاته، ويتدخل حين يلزم الأمر.
من هذه الرؤية وُلد برنامج "ITI Tech Law" من معهد تكنولوجيا المعلومات، ليبني جسرًا بين عالمين: القانون والتكنولوجيا. لا لإعداد المبرمجين من رجال القانون، ولكن لتزويدهم بالأدوات والمعرفة التي تمكّنهم من فهم العالم الرقمي والتفاعل معه، والتأثير فيه من موقعهم كحماة للحقوق، ومشرعين للمستقبل.
استمر البرنامج في نسخته الأولى لمدة سبعه أشهر، تضمن ثلاث ركائز في تصميمه
الركيزة الأولى – التقنية من منظور قانوني مستوحاة من Harvard's CS50 for Lawyers:
تشمل هذه المرحلة أساسيات ولغات البرمجة، التفكير الحوسبي، قواعد البيانات، الخوارزميات، الذكاء الاصطناعي، التشفير، البلوك تشين، الحوسبة السحابية، البرمجيات المفتوحة المصدر، الطباعة ثلاثية الأبعاد، الحوسبة الكمية، وغيرها من التقنيات الناشئة.
لكن ما يميز هذا المحور أنه لم يُقدَّم لبناء حلول تقنية، بل لطرح الأسئلة حول هذه الحلول: هل هي آمنة؟ هل تحترم الخصوصية؟ من يتحمل المسؤولية؟ المحامي هنا لم يتعلّم ليُبرمج، بل ليفكك، ويحلل، ويقيّم. لقد تمرّن المشاركون على امتلاك اللغة التي تُمكّنهم من فتح حوار نقدي مع التكنولوجيا، بدلًا من الوقوف على الهامش.
الركيزة الثانية والثالثة – حقوق النشر وقوانين التكنولوجيا:
في عالم ينتج ملايين الملفات البرمجية والمحتويات الرقمية يوميًا، يصبح فهم قوانين الملكية الفكرية، التراخيص المفتوحة (مثل MIT، GPL، Creative Commons)، حماية البيانات، الخصوصية، العقود الذكية، والتنظيمات الدولية ضرورة لا ترفًا.
هذه الركائز منحت المشاركين عدسة قانونية دقيقة ينظرون من خلالها إلى الواقع التقني المتغير بسرعة.
ثم خُتم البرنامج بتدريب على مهارات العمل الحر، ليفتح أمام المحامين المشاركين آفاقًا جديدة للعمل المستقل محليًا وعالميًا، باستثمار معرفتهم القانونية والتقنية في فرص أكثر تأثيرًا ومرونة.
وجاءت احتفالية التخرج بحصادين..الحصاد الأول كان إعلانًا عن ولادة جيل جديد من الكوادر القانونية والقضائية، قرروا ألا يجلسوا على مقاعد المتفرجين، بل أن يشاركوا في صياغة ملامح العصر الرقمي، ويناقشوا ويواجهوا ويُنظّموا كل ما يستدعي التنظيم. وجاء الحصاد الثانى.. ليطلق المعهد نسخة إلكترونية كاملة من البرنامج على منصة "مهارة تك" ليصل للجميع من المهتمين.
وليستمر المعهد في رسالته.