متابعة : ساره نور الدين
تخوض شركات التكنولوجيا العملاقة سباقاً محموماً فيما بينها، بهدف خطف ألمع العقول في عالم تطوير الذكاء الاصطناعي، حيث تلجأ هذه الشركات إلى ابتكار أساليب غير تقليدية لاستقطاب أمهر الباحثين في هذا المجال، حتى لو كان الثمن، دفع مليارات الدولارات.
فبدلاً من شراء الشركات الناشئة، باتت شركات التكنولوجيا العملاقة، تُعيد صياغة استراتيجيتها عبر استقطاب مؤسسي هذه الشركات، وكبار باحثي الذكاء الاصطناعي فيها، لتترك وراءها كيانات خاوية تبحث عن أدوار جديدة أو تنتظر من يستحوذ عليها.
رواتب تُضاهي رواتب الرياضيين
وبحسب تقرير أعدته "وول ستريت جورنال" فإن الباحثين الذين تستقطبهم شركات التكنولوجيا العملاقة، يحصلون في بعض الحالات على رواتب تُضاهي رواتب الرياضيين المحترفين، إذ أن هذه الاستراتيجية قد تساعد شركات وادي السيليكون العملاقة، على المدى القريب في معركة التفوق في مجال الذكاء الاصطناعي، ولكنها في الوقت عينه تهدد بتقويض البيئة الابتكارية التي صنعت أسطورة الوادي.
استقطاب الأفراد
فشراهة شركات التكنولوجيا الكبرى على استقطاب مواهب الذكاء الاصطناعي، وإنفاق مبالغ طائلة على هذا الأمر يجعلها "تأكل نفسها"، إذ إن الأموال التي تُخصص لدفع رواتب ضخمة وحزم معاشات مغرية، كان يمكن أن تُوجّه نحو استثمارات طويلة الأمد في البنية التحتية، أو تطوير تقنيات مبتكرة جديدة. وفي كثير من الحالات، قد لا يحقق إنفاق المليارات على استقطاب الأفراد وحده المردود المطلوب، خصوصاً إذا لم يُترجم إلى منتجات أو خدمات قادرة على توليد عوائد مستدامة.
ثقافة "شراء الشركات الناشئة "
ويلفت تقرير "وول ستريت جورنال" إلى أن لجوء مايكروسوفت وميتا بلاتفورمز وأمازون وألفابت، إلى ما يُعرف بــ "الاستحواذ العكسي على المواهب"، يقوّض ثقافة "شراء الشركات الناشئة" التي جعلت من وادي السيليكون، مصدراً لا مثيل له للابتكار التكنولوجي، فلطالما ارتكزت الصفة الأساسية لوادي السيليكون، على المخاطرة الهائلة والمراهنة على شراء الشركات الناشئة وابتكاراتها، على أمل الحصول على مردود ضخم منها.
وصحيح أن معظم الشركات الناشئة تفشل، ولكن تلك التي تنجح تحقق نجاحاً باهرا،ً وعوائد تفوق قيمتها مئات المرات. ولعلّ أبرز الأمثلة على ذلك، ما حصل مع نظام أندرويد، الذي لم يكن معروفاً حين اشترته غوغل عام 2005 مقابل 50 مليون دولار، أما اليوم فقد أصبح أندرويد حجر الزاوية في عالم الهواتف المحمولة حول العالم، والأمر ذاته ينطبق على استحواذ أمازون عام 2015 على مختبرات أنابورنا مقابل 350 مليون دولار، والذي وضع الأساس لاندفاع أمازون الكبير نحو تطوير الرقائق المخصصة.
القضاء على المنافسة
كما أن التركيز على استقطاب المواهب الموجودة في الشركات التكنولوجية الناشئة، يُحدث خللاً عميقاً في دورة الابتكار، إذ إن حرمان هذه الشركات من أبرز مطوريها وباحثيها الموهوبين، يجعلها أقل قدرة على المنافسة أو حتى الاستمرار في السوق، الأمر الذي قد يؤدي إلى اندثار مشاريع واعدة قبل أن ترى النور.
وفي حال استمر هذا النهج على المدى الطويل، قد يتحول وادي السيليكون من بيئة نابضة بالابتكار والجرأة، إلى سوق مغلق تسيطر عليه حفنة من الشركات العملاقة، ما يحد من فرص ظهور ابتكارات ثورية جديدة، ويبطئ وتيرة التغيير التكنولوجي العالمي.
التخلص من موافقة الجهات التنظيمية
ومن الواضح أن السبب الرئيسي وراء لجوء شركات التكنولوجيا لاستقطاب المواهب مباشرة، بدلاً من شراء الشركات الناشئة، هو الحاجة إلى السرعة في عالم الذكاء الاصطناعي. فبهذه الطريقة تحصل الشركات على الباحثين وعلى التقنيات التي تحتاجها بسرعة، دون عناء دمج العمليات بعد الاستحواذ. والأهم من ذلك، أنها تتجاوز الحاجة لموافقة الجهات التنظيمية في عصر، يشهد تدقيقاً متزايداً في قضايا مكافحة الاحتكار.
سباق محموم
ويقول مستشار الاستثمار أنطوان سعادة، وفقا لما ذكره موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إنه إذا نظرنا إلى السباق المحموم على استقطاب علماء الذكاء الاصطناعي، من زاوية اقتصادية بحتة، فسنجد أن ما يحصل اليوم في وادي السيليكون يعكس انتقالاً خطيراً من الاستثمار في المؤسسات إلى الاستثمار في الأفراد، وهذه الظاهرة وإن بدت جذابة على المدى القصير، فإنها تحمل مخاطر هيكلية كبيرة، فحين تتحول الشركات الناشئة إلى مجرد "مصانع مواهب" لشركات كبرى، ينشأ خلل في منظومة رأس المال المخاطر، التي بنيت عليها أسطورة وادي السيليكون، حيث سيتردد المستثمرون في ضخ الأموال في مشاريع ناشئة، إذا كان مصيرها الحتمي أن تفقد أفضل عقولها سريعاً، وهذا قد يخلق فجوة تمويلية تحدّ من ظهور الابتكارات الجديدة.
مشددا على أن إنفاق مليارات الدولارات على الأجور والامتيازات، قد لا يترجم بالضرورة إلى تراكم معرفي طويل الأمد داخل الشركات، فالمواهب البشرية مهما بلغت كفاءتها، تبقى متقلبة وقد تنتقل سريعاً إلى منافس آخر، ما يجعل الاستثمارات البشرية أقل استقراراً مقارنة بالاستحواذ على أصول أو منصات تكنولوجية متكاملة، معتبراً أن ما نراه اليوم، يشبه إلى حد ما "تسليع العقول"، حيث يتم التعامل مع الباحثين كما يتم التعامل مع الرياضيين المحترفين في أسواق الانتقالات، وهذه المقاربة قد تُضعف روح الفريق داخل الشركات، وتجعل بيئة العمل أقل استدامة، إذ يتحول الابتكار إلى سباق على الرواتب، لا على بناء معرفة تراكمية.
ويعتبر سعادة أن الخطورة الكبرى تكمن في أن الشركات العملاقة، قد تنجح مؤقتاً في تحييد منافسيها الصغار، ولكنها في الوقت ذاته تُضعف الحاضنة التي تمدّها بالأفكار الجديدة، وإذا انهارت هذه الحاضنة أو تراجعت قدرتها على التجدد، فإن وادي السيليكون قد يفقد تدريجياً ميزته التنافسية العالمية، ويترك المجال لمراكز ابتكار جديدة في آسيا أو أوروبا لتأخذ زمام المبادرة.
مكافحة الاحتكار
بدورها تقول الصحفية الاقتصادية رنى سعرتي، إن الاستراتيجية الجديدة التي تعتمدها شركات التكنولوجيا الكبرى، تعكس بوضوح تأثير البيئة التنظيمية المتغيرة في الولايات المتحدة وأوروبا، فمع تصاعد الرقابة على صفقات الاستحواذ ومنع الكثير منها بحجة مكافحة الاحتكار، ابتكرت الشركات العملاقة ما يشبه "الالتفاف القانوني" عبر استقطاب الأفراد بدلاً من شراء الكيانات، وهذه المقاربة تُجنبها متاعب التدقيق من الجهات الرقابية ولكنها تفتح الباب أمام إشكاليات جديدة، لافتةً إلى أنه عندما يتم تفريغ الشركات الناشئة من خبراتها الأساسية، يتم حرمان السوق من حلول قد تكون أكثر تنوعاً، وأقل خضوعاً لهيمنة الشركات الكبرى، وهذا يثير تساؤلات حول ما إذا كان يتوجب على المشرعين، التدخل لتنظيم هذه الممارسات كما ينظمون صفقات الدمج والاستحواذ.
ريادة عالمية فى مجال " AI "
وتشدد سعرتي على أن إنفاق مبالغ ضخمة على استقطاب العقول لا يضمن وحده ريادة عالمية في الذكاء الاصطناعي، فالريادة تتطلب بيئة متكاملة تشمل مراكز أبحاث وأنظمة تعليم متطورة، واستثمارات ضخمة في البنية التحتية للبيانات والحوسبة، ولذلك فإن التركيز المفرط على الأفراد قد يؤدي إلى إهمال هذه الركائز الأساسية، وبالتالي يُحوّل السباق الحالي إلى سباق قصير الأمد، مليء بالمفاجآت، ولكن غير قابل للاستدامة.
أوضحت هذه الظاهرة قد تُسهم في إعادة تشكيل جغرافيا الابتكار عالمياً، فإذا أصبحت بيئة الشركات الناشئة في وادي السيليكون أقل جاذبية، فقد نشهد انتقال رواد الأعمال والمستثمرين، نحو مراكز بديلة مثل برلين، بنغالور أو شنغهاي، حيث تتوافر المواهب بتكلفة أقل وتجد الشركات الناشئة مساحة أكبر للنمو بعيداً عن ضغوط العمالقة الأميركيين .