" حريق سنترال رمسيس .. جرس إنذار لشبكة الاتصالات الوطنية وخطة التحول الرقمى بمصر"

  • بقلم : د. عــادل اللقــانى

    خبير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات

    [email protected]

     

     

    "في صباح أحد الأيام الماضية فوجئ ملايين المصريين بانقطاع مفاجئ في خدمات الإنترنت والاتصالات المحمولة، واختفاء إشارات الشبكة من على هواتفهم، وتوقف تطبيقات الدفع الإلكتروني ، وسحب الاموال من ماكينات ايه تى ام  التي أصبحت ركنًا أساسيًا في حياتهم اليومية. لم يدر الكثيرون أن السبب يعود إلى حريق اندلع داخل أحد الأعمدة الحيوية للبنية التحتية للاتصالات في مصر وهو  "سنترال رمسيس  " ، لكن ما حدث لم يكن مجرد حادث عرضي  بل كشف هشاشة مقلقة في منظومة الاتصالات الحديثة بمصر ، وأطلق جرس إنذار مفاده  "أنظمة الاتصالات في خطر.. والحماية ضرورة وطنية" ..  فى هذا التقرير نستعرض تفاصيل هذا الحادث ، واثاره السلبية على الاقتصاد ، وخطورته على خطط التحول الرقمى فى مصر ، ونتطرق الى استعراض اراء الصحافة العالمية ، والدروس المستفادة من الحوادث المماثلة" .

     اولا : ماهو اهمية سنترال رمسيس ؟

    سنترال رمسيس ، الواقع في قلب القاهرة ، يعد واحدًا من أهم مراكز الاتصالات في البلاد، حيث يربط بين عدد كبير من مزودي الخدمة والمحافظات. ومع اندلاع الحريق احترقت أجزاء كبيرة من الكابلات الأرضية والمعدات المركزية، ما أدى إلى شلل مؤقت في حركة الاتصالات في مناطق واسعة. أثر ذلك لم يكن تقنيًا فقط، بل انعكس مباشرة على الاقتصاد إذ توقفت المعاملات البنكية والدفع الإلكتروني، وتعطلت أعمال تجارية تعتمد على الاتصال بالإنترنت.  و"سنترال رمسيس " ليس مجرد مبنى إداري تابع لشركة الاتصالات المصرية بل يُعد بمثابة العقل المركزي لشبكات الهاتف والإنترنت في قلب القاهرة ويتحكم في تشغيل عدد هائل من الكابلات الأرضية ، ومراكز التبديل الخاصة بالمحمول والثابت، إلى جانب نقاط الربط الخاصة بخدمات الإنترنت الدولي والدفع الإلكتروني. ويُعد هذا السنترال نقطة وصل بين العديد من مراكز الشبكات الخاصة بشركات المحمول الثلاث (أورنج، فودافون، اتصالات، والمصرية للاتصالات)، مما يجعله واحدًا من أهم الأعمدة الفقرية للبنية التحتية الرقمية في مصر.

    ثانيًا: ماذا حدث يوم الحريق؟

    اندلع الحريق داخل إحدى غرف الكابلات تحت الأرض نتيجة ماس كهربائي - حسب التحقيقات الأولية - ما أدى إلى احتراق كابلات الفايبر (الألياف الضوئية) التي تنقل الإشارة من الشبكات إلى المستخدمين. ونتيجة لذلك توقفت خدمات الاتصالات والإنترنت والمحمول والدفع الإلكتروني في مناطق واسعة، أبرزها: وسط القاهرة وبعض أحياء الجيزة وأجزاء من مدن الدلتا ، وتأثرت البنوك، توقفت المتاجر، ولم يتمكن المواطنون من استخدام المحافظ الإلكترونية أو التحويلات المالية عبر التطبيقات .. ببساطة أصيبت البنية الرقمية بشلل مؤقت .

    ثالثا : ماذا كشف عنه الحادث  ؟

    ما حدث في رمسيس لم يكن مجرد "عطل فني"، بل كشف عن ثغرة خطيرة في منظومة تأمين البنية التحتية للاتصالات في مصر. فعصرنا الرقمي لا يحتمل الاعتماد على نقطة واحدة مركزية دون وجود بدائل احتياطية. نحن أمام واقع يفرض علينا أن نعيد التفكير في كيفية تأمين هذه النظم، ليس فقط من الكوارث الطبيعية أو الحوادث، بل من أي تهديد محتمل. ونستطيع ان نقول بان الحادث  كشف عن ثلاث نقاط ضعف رئيسية : 

    ·       الاعتماد على مركزية البنية التحتية: إذا توقف سنترال رمسيس توقفت الحياة الرقمية لجزء كبير من القاهرة. وهذا يشير إلى غياب "التكرار الشبكي" أو ما يعرف تقنيًا بـ Redundancy.

    ·       ضعف الحماية الفيزيائية: لم يكن هناك نظام فعال للإنذار المبكر أو الإطفاء التلقائي في غرفة الكابلات. وهذا يطرح تساؤلات حول مستوى تجهيز مراكز الاتصالات للحوادث.

    ·       غياب خطط الطوارئ السريعة: استغرقت عملية الإصلاح عدة ساعات، ما تسبب بخسائر اقتصادية وخدمية فادحة، في حين أن الدول المتقدمة تمتلك نظم بديلة فورية لتجاوز الاعطال.

    رابعا : ماهى تداعيات الحادثة الاخرى على الاقتصاد القومى ؟

    ·       انقطاع الإنترنت عطل الملاحة الجوية مؤقتًا وأجّل لاحقًا بعض إقلاع الطائرات .

    ·       البورصة أوقفت التداول لتضرر أنظمتها منه .

    ·       تضرر عمليات الدفع الإلكتروني لعدة ساعات مما سلط الضوء على مخاطر اقتصاد قائم على الرقمنة غير المؤمّنة بالكامل.

    خامسا : ماذا قالت الصحافة العالمية ؟

    الحادث لم يمرّ مرور الكرام في الصحافة العالمية بل رأت فيه وكالات الأنباء الدولية مؤشرًا خطيرًا على انكشاف للبنية  الرقمية الهشة وخلل بنيوي في البنية التحتية الرقمية لدولة تتقدم بخطى سريعة نحو التحول الرقمي.

    رويترز:  وكالة رويترز أبرزت في تقريرها أن الحريق "تسبب في انهيار كبير بخدمات الإنترنت والاتصالات"، ووفقًا لموقع NetBlocks المتخصص في رصد الاتصال الرقمي حول العالم، فقد "انخفضت نسبة الاتصال في مصر إلى 62% من مستواها الطبيعي".وأشارت الوكالة إلى أن الحادث كان نتيجة "ماس كهربائي" في غرفة معدات الاتصالات ما دفع إلى فصل الكهرباء عن المبنى بالكامل.

    أسوشيتد برس:  ركزت "وكالة الأسوشيتد برس " على البُعد الإنساني والتقني للحادث، وأوردت في تقريرها أن عدد الضحايا بلغ 4 قتلى و27 مصابًا، مشيرة إلى أن "الحريق أدى إلى اضطراب كبير في خدمات الإنترنت، الهواتف المحمولة، والدفع الإلكتروني"، مما أثار تساؤلات حول مدى استعداد البنية التحتية لمصر الرقمية لمواجهة الطوارئ.

    واشنطن بوست:  في تقريرها المصور وصفت "واشنطن بوست " المشهد بأنه "تفحم في قلب القاهرة"، وأضافت أن الحادث "أدى إلى تعطيل عدد من الأنظمة الحيوية في العاصمة، بما فيها حركة الطيران والقطارات"، بينما حاولت السلطات استعادة الخدمات خلال 24 ساعة.

    The National: " صحيفة The National" الإماراتية رأت في الحادث "نقطة انكشاف حساسة في بنية الدولة الرقمية"، وأشارت إلى أن مصر بحاجة لإعادة هيكلة بنيتها التحتية الرقمية، وتوزيع مراكز الاتصالات بشكل أكثر مرونة لتفادي الاعتماد الكلي على نقاط مفصلية كـ "سنترال رمسيس" .

    الصحافة الدولية رغم حيادها الظاهري، حملت ما يشبه التحذير:  "  لا يكفي أن تتحول الدول إلى الرقمنة ؛ بل عليها أن تحمي هذا التحول جيدًا."  والخبراء الدوليون فى مجمل تحليلاتهم لهذه الصحف ووكالات الانباء العالمية اعتبروا أن ما حدث ليس مجرد حادث عارض، بل تجسيد لما يمكن أن يُطلق عليه "نقطة انهيار مفردة (Single Point of Failure)" في منظومة يجب أن تقوم على اللامركزية والتوزيع الآمن للمهام والبيانات.

    سادسا : التحول الرقمي تحت التهديد

    اذا مصر وهى تخطو خطوات جادة نحو التحول الرقمي من رقمنة الخدمات الحكومية  إلى التوسع في المدفوعات الإلكترونية والتعليم عن بُعد، والطب الرقمي وغيره من التحول الرقمى فى كافة مناحى الحياة لايمكن ان تنجح فى ذلك اذا لم تكن قادرة على ان تصمد أمام ثغرات في بنية الاتصالات. إذا لم تُحمى هذه الشبكات وتُصمَّم على أسس حديثة فإن كل مشروع رقمي معرض للسقوط بمجرد انقطاع أو حريق أو هجوم سيبراني . والواقع يُشير إلى أن التحول الرقمي لا يكون ناجحًا ما لم يكن آمنًا. لا جدوى من خدمات سريعة ومتطورة إذا كانت معرضة للانقطاع عند أول اختبار. كما أن الثقة في النظام الرقمي تُبنى على الاستمرارية والثبات، لا على التجارب والانقطاعات الطارئة .

     

    سابعا : حوادث مماثلة حول العالم                                            

    حوادث انقطاع خدمات الاتصالات بسبب حرائق أو أعطال تقنية ليست جديدة، فقد شهدت عدة دول حول العالم حالات مشابهة، وكان لكل منها دروس وعبر يمكن ان نستفيد بها مستقبلا :

     في عام  2011 باليابان : حدث  انقطاع شامل بسبب كارثة تسونامي ضربت البنية التحتية للاتصالات والكهرباء. تعلمت اليابان من تلك الأزمة أهمية بناء شبكات اتصالات مقاومة للكوارث الطبيعية، وتطوير أنظمة طوارئ تعتمد على مصادر طاقة احتياطية وأنظمة اتصالات عبر الأقمار الصناعية لضمان استمرار الاتصال في الظروف الصعبة .

    في عام 2018 بالولايات المتحدة الامريكية : تعرض مركز بيانات رئيسي لشركة اتصالات في ولاية كاليفورنيا الأمريكية لحريق كبير تسبب في انقطاع واسع للإنترنت والاتصالات عن ملايين المستخدمين. أدى الحادث إلى إعادة النظر في تصميم مراكز البيانات، حيث أُجبرت الشركات على اعتماد أنظمة تبريد ووقاية متعددة الطبقات، وكذلك إنشاء مراكز بيانات بديلة لتوزيع التحميل وتقليل الاعتماد على نقطة واحدة فقط .

    في عام 2020 ببريطانيا :  شهدت لندن في 2020 حادثة انقطاع واسعة في خدمات الإنترنت بسبب مشكلة في كابل الألياف الضوئية الرئيسي. استجابت شركات الاتصالات بسرعة كبيرة، واستثمرت في إنشاء شبكة احتياطية تعتمد على تكنولوجيا متعددة ومسارات بديلة للبيانات مما قلل بشكل كبير من احتمالية تأثر المستخدمين في المستقبل .

    ثامنا : ماهى الدروس المستفادة من هذه الحوادث المشابهة ؟

    من هذه الأمثلة يتضح أن الدروس الأساسية تكمن في : تنويع مصادر الاتصالات،  وعدم الاعتماد على نقطة واحد ، وتطوير نظم مراقبة ذكية للكشف المبكر عن الأعطال والحوادث ،والاستثمار في البنية التحتية المقاومة للكوارث والطوارئ  وتدريب فرق الطوارئ والمهندسين على التعامل السريع والفعال مع الحوادث ، ووضع خطط طوارئ تشمل استراتيجيات اتصال بديلة مثل الأقمار الصناعية أو الشبكات اللاسلكية الاحتياطية .

    تاسعا : كيف نحمي شبكة الاتصالات الوطنية ونظم الاتصالات الحديثة فى مصر  ؟

    يمكن لمصر اتخاذ خطوات عملية لتعزيز مرونة وكفاءة شبكات الاتصالات الوطنية وتقليل مخاطر الانقطاع المفاجئ  من بينها :

    تنويع البنية التحتية : العمل على تطوير شبكة اتصالات متعددة المسارات والطرق، بحيث لا تعتمد على كابل أو مركز بيانات واحد فقط، بل يكون هناك توزيع متوازن يضمن استمرارية الخدمة حتى في حالة حدوث عطل في أحد النقاط.

    اللامركزية والتوزيع الجغرافي: يجب ألا تعتمد الخدمات الحيوية على مركز واحد  فقط. من الضروري إنشاء مراكز بيانات وسنترالات فرعية موزعة جغرافيًا  قادرة على استيعاب الأحمال عند تعطل المركز الرئيسي .

    تكرار الكابلات والمسارات الحيوية  (Redundancy ) : يضمن استمرار الخدمة حتى في حال تعطل أحد المسارات .

    إنشاء مراكز بيانات احتياطية :بناء مراكز بيانات بديلة في مناطق جغرافية مختلفة، مزودة بأنظمة تبريد وحماية متقدمة، لتكون جاهزة لتولي الحمل في حال تعطل المراكز الرئيسية.

    تأمين البنية التحتية ضد الكوارث: ينبغي تجهيز السنترالات بأنظمة إنذار مبكر، ومكافحة حرائق، مع الالتزام بأعلى معايير السلامة .

    التحول إلى البنية السحابية: الاعتماد على خدمات الحوسبة السحابية يسهم في فصل البيانات عن البنية الفيزيائية المحلية ويقلل من تأثير الأعطال المادية.

    تطبيق نظم مراقبة ذكية : استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء في مراقبة البنية التحتية للكشف المبكر عن أي

    علامات تدل على وجود مشكلة مثل ارتفاع درجات الحرارة أو تسرب في الكابلات والتدخل السريع قبل تفاقمها .

    تطوير خطط الطوارئ والتدريب : إعداد خطط طوارئ شاملة تشمل سيناريوهات متعددة، مع تدريب فرق فنية متخصصة على

    التعامل مع الأزمات بسرعة وكفاءة، وتقليل مدة الانقطاع إلى أدنى حد.

    الاستثمار في حلول اتصال بديلة : دعم وتطوير تقنيات اتصال بديلة مثل الأقمار الصناعية والشبكات اللاسلكية الاحتياطية، لتكون

    متاحة عند انقطاع الشبكة الأساسية، خاصة في المناطق النائية أو الحيوية .

    التوعية والتنسيق مع الجهات المعنية : زيادة التنسيق بين شركات الاتصالات، والجهات الحكومية، والمرافق العامة لضمان

    سرعة الاستجابة المشتركة والتصدي لأي حادث بسرعة وفعالية.

    هذه الخطوات، إذا ما تم تنفيذها بجدية، ستجعل شبكة الاتصالات المصرية أكثر أمانًا ومرونة، وتقلل من الخسائر الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن مثل هذه الحوادث، وسترفع ثقة المواطنين والمستثمرين في قدرات البنية التحتية الوطنية وستدعم التحول اللكترونى التى تنشده الدولة وجميع وزاراتها .

     

    " فى الختام : كانت حادثة حريق سنترال رمسيس مؤلمة لكنها أيضًا كانت درسًا لا يُقدّر بثمن فقد كشفت نقاط الضعف التى لدينا والتى يمكن ان يستفيد منها الاعداء لتنفيذ مخططتاهم ضد الوطن ، وأتاحت فرصة لإعادة البناء بشكل أقوى وأكثر أمانًا . وفي زمن أصبحت فيه الاتصالات شريان الحياة فإن تأمين هذا الشريان بمجموعة من الاجراءات العاجلة لم يعد مجرد خيار بل واجب وطني لا يحتمل التأجيل "

    حمّل تطبيق Alamrakamy| عالم رقمي الآن