بقلم : رانيا جول
كبير محللي الأسواق في XS.com - منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
في مشهدٍ اقتصادي معقّد تتقاطع فيه إشارات الأسواق والبيانات الاقتصادية مع التصريحات السياسية، يبدو لي أن مؤشر الدولار الأمريكي (DXY) يدخل مرحلة حرجة تتطلب قراءة دقيقة لما بين السطور، لا الاكتفاء بردود الفعل السريعة للمتداولين. فبعدما بقي المؤشر يتداول في نطاق ضيق حول مستوى 100.90 لليوم الثاني على التوالي، متأثرًا ببيانات التضخم الأمريكية الأضعف من المتوقع، أصبحت الرؤية المستقبلية لمؤشر الدولار محاطة بعوامل متداخلة تحمل في طياتها مزيجًا من الحذر والاحتمالات المتضادة.
فالبيانات الأخيرة أكدت تباطؤ التضخم في أبريل، حيث ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين السنوي بنسبة 2.3% مقارنةً بـ2.4% في مارس، فيما استقر المؤشر الأساسي عند 2.8%، مما يشير إلى أن وتيرة الضغوط التضخمية لا تزال محدودة ومسيطرًا عليها. وهذه النتائج، ورغم أنها لا تمثل مفاجأة حادة للأسواق، فإنها خلقت حالة من الجدل حول ما إذا كان الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سيجد مبررًا للتحرك باتجاه خفض أسعار الفائدة لاحقًا هذا العام.
وفي الوقت نفسه، لا يمكن فصل التراجع الحالي لمؤشر الدولار عن التحوّلات الجيوسياسية التي طرأت في الأيام الأخيرة. فقد شكّلت التصريحات المفاجئة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن العلاقات مع الصين، التي وصفها بـ"الممتازة"، وتأكيده على سعيه لتوسيع الوصول إلى الأسواق الصينية، إشارة تهدئة واضحة للأسواق، تزامنًا مع الإعلان عن اتفاق مبدئي لخفض الرسوم الجمركية المتبادلة بين البلدين. وبينما تُعد هذه التطورات إيجابية على المستوى الكلي، فإن التفاصيل الغائبة عن الاتفاق – من حيث الجدول الزمني والمجالات المشمولة – أثارت شكوك الأسواق وخلقت حالة من الترقب الحذر انعكست بوضوح على حركة مؤشر الدولار، الذي لم يجد زخمًا كافيًا لكسر نطاق التذبذب الأفقي الذي يحوم حول 101.00.
ومن وجهة نظري، أرى أن الدولار الأمريكي يواجه ضغطًا مزدوجًا في المرحلة الحالية: الأول مصدره البيانات الاقتصادية التي تُظهر ضعفًا تدريجيًا في الزخم التضخمي، والثاني ناتج عن حالة عدم اليقين السياسي المرتبطة بالتصريحات والمفاوضات التجارية التي تفتقر إلى تفاصيل ملموسة. ففي غياب ضغوط تضخمية حادة، ومع انكماش شهري فعلي في أسعار المستهلك في مارس، يبدو أن بنك الاحتياطي الفيدرالي لن يكون في عجلة من أمره لرفع أسعار الفائدة. ورغم أن التوقعات لا تُظهر حتى الآن احتمالات كبيرة لخفض الفائدة في اجتماع يونيو (8.2%)، إلا أن الاحتمالات ترتفع إلى نحو 38.6% بحلول نهاية يوليو، مما يعكس توقعات الأسواق بمرونة محتملة في السياسة النقدية إذا استمر الضعف في البيانات.
إضافة إلى ذلك، فإن عوائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات، والتي تتداول حاليًا حول 4.47%، تُشير إلى أن السوق لا تزال تقيّم بعناية المسار المستقبلي للسياسة النقدية، في ظل توازن دقيق بين التضخم المُعتدل والرغبة في تجنّب تباطؤ اقتصادي أوسع. ومن غير المتوقع أن يتحرك الفيدرالي بشكل استباقي نحو خفض الفائدة ما لم يظهر تدهور ملحوظ في النشاط الاقتصادي أو مزيد من التباطؤ في التضخم، وهو ما يجعل كل تقرير اقتصادي مقبل – مثل مؤشر أسعار المنتجين ومسح جامعة ميشيغان لثقة المستهلك – على درجة عالية من الأهمية في توجيه توقعات السوق.
ومن جهة أخرى، لا يجب التقليل من أهمية الدور الذي تلعبه السياسة في تحريك الأسواق في هذا التوقيت. فتصريحات ترامب الهجومية تجاه الاتحاد الأوروبي، ووصفه له بأنه "أسوأ من الصين"، تؤكد أن الولايات المتحدة تمارس ضغوطًا متزايدة في جميع الجبهات التجارية، مما قد يُبقي على حالة القلق قائمة لفترة أطول، خاصة إذا تطورت هذه التصريحات إلى إجراءات فعلية. في الوقت ذاته، فإن اتفاقيات التجارة غير المكتملة – مثل تلك التي تم الإعلان عنها مع الصين والمملكة المتحدة – تجعل من الصعب على الأسواق تسعير التفاؤل بشكل واقعي ومستدام، الأمر الذي يُبقي الدولار في موقع المراقبة، لا القيادة.
لذا أعتقد أن مؤشر الدولار الأمريكي سيبقى يتحرك في نطاق محدود نسبيًا خلال الأسابيع القليلة القادمة، ما بين 100.50 و101.50، مع ميل طفيف للهبوط إذا جاءت بيانات المنتجين وثقة المستهلك دون التوقعات. أما على المدى المتوسط، فإن المسار سيكون مرهونًا بوضوح الرؤية بشأن السياسة النقدية الأمريكية، ومدى التزام الأطراف التجارية بالاتفاقيات المُعلنة، ومدى انعكاس الرسوم الجمركية الجديدة على مستويات الأسعار والاستهلاك المحلي.
وفي الختام، يمكنني القول إن مؤشر الدولار الأمريكي لا يزال يُظهر مرونة نسبية رغم الضغوط المتزايدة، لكن استمرار غياب مفاجآت إيجابية على صعيد البيانات أو السياسة قد يُبقيه عرضة لتراجعات متقطعة. وفي عالم سريع التغير كهذا، فإن القدرة على قراءة التوجهات لا تقل أهمية عن قراءة الأرقام، والمرجّح أن الدولار سيبقى في منطقة اختبار... بانتظار ما هو أكثر من مجرد تصريحات.