بقلم : رانيا جول
كبير محللي الأسواق في XS.com- منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
في الوقت الذي يزداد فيه المشهد النفطي العالمي تعقيدًا، تبرز الصين والمملكة العربية السعودية كلاعبين حاسمين يشكّلان ملامح المرحلة المقبلة. إذ تُظهر البيانات الأخيرة أن واردات الصين من النفط الخام سجلت ارتفاعًا قويًا خلال يونيو، لتصل إلى نحو 49.9 مليون طن، أي ما يعادل 12.2 مليون برميل يوميًا، وهو أعلى مستوى منذ صيف عام 2023. وعلى الرغم من أن هذا الارتفاع يُفسر جزئيًا بزيادة مستويات التكرير التي بلغت 15.2 مليون برميل يوميًا، فإن الجزء الأكثر إثارة للاهتمام يتمثل في الكميات الكبيرة التي يتم تخزينها بدلًا من استهلاكها محليًا، وهو ما يطرح علامات استفهام حول نوايا الصين المستقبلية.
ومن الواضح أن الصين لا تشتري هذا الحجم الضخم من الخام فقط من أجل تلبية الطلب المحلي، خصوصًا في ظل تباطؤ النمو الاقتصادي وضعف استهلاك الطاقة داخليًا، كما أظهرت بيانات الناتج المحلي الإجمالي للربع الثاني. بل يبدو أنها تتبع استراتيجية مزدوجة: من جهة، استغلال هوامش الربح المرتفعة في منتجات مثل الديزل لتعزيز صادراتها المكررة، ومن جهة أخرى، بناء احتياطيات استراتيجية وتجارية ضخمة في وقت تعتبر فيه الأسعار نسبياً جذابة، ومخاطر الإمدادات مرتفعة. وبرأيي، هذه الاستراتيجية تُظهر استراتيجية صينية مميزة ، لكنها في الوقت ذاته تخلق حالة من "الطلب الوهمي" في السوق، مما يرفع الأسعار مؤقتًا دون أن يعكس طلبًا فعليًا مستدامًا.
وما يزيد الوضع ضبابية هو تقدير وكالة الطاقة الدولية بأن المخزونات الصينية ارتفعت بمقدار 82 مليون برميل في الربع الثاني فقط، وهو رقم يُعد من بين أعلى الزيادات الفصلية على الإطلاق. وإذا ما أضفنا إلى ذلك حقيقة أن مرافق التخزين الحكومية ممتلئة بنسبة 80%، بينما لا تزال المرافق التجارية عند 50% فقط، فإننا أمام احتمالين لا ثالث لهما: إما أن تواصل الصين هذا التراكم بوتيرة مرتفعة ما دام لديها متّسع، أو أنها على وشك بلوغ سقف استيعابها، مما قد يؤدي إلى تباطؤ حاد في الواردات، وبالتالي تراجع الدعم القائم للأسعار. ومن وجهة نظري، الاحتمال الثاني يبدو أكثر واقعية في الأجل القصير، خاصة مع ضعف المؤشرات الاقتصادية الداخلية للصين وغياب محفزات قوية لتعافي استهلاك الطاقة محليًا.
من جهة أخرى، فاجأت السعودية الأسواق برفع إنتاجها في يونيو بمقدار 700 ألف برميل يوميًا ليصل إلى 9.8 مليون برميل، متجاوزة المستوى المتفق عليه داخل تحالف أوبك+ بنحو 430 ألف برميل يوميًا. ويُعد هذا الانحراف عن سقف الإنتاج الرسمي إشارة مثيرة للقلق فيما يتعلق بتماسك التحالف، خصوصًا في حال تحول هذا "التجاوز" إلى نمط دائم كما حدث سابقًا مع بعض دول الخليج. وبالنسبة لي، فإن استمرار مثل هذه الانحرافات، حتى وإن تم تبريرها بزيادة الصادرات أو استهلاك محلي أعلى، سيضعف من مصداقية أوبك+ ويزيد من خطر تفكك التنسيق الداخلي بين أعضائه.
واللافت أن المملكة طلبت من أوبك في وقت سابق خفض إنتاجها لشهر يونيو، مما يشير إلى وجود تناقض بين النوايا المعلنة والسلوك الفعلي على الأرض. ويبدو أن السعودية تحاول الموازنة بين الحفاظ على حصة سوقية قوية من جهة، وضمان استقرار الأسعار من جهة أخرى، وهي مهمة شبه مستحيلة في ظل اضطراب الطلب العالمي وتنامي التوترات الجيوسياسية. وبرأيي، فإن استمرار السعودية في تجاوز أهداف الإنتاج قد يدفع دولًا أخرى ذات طاقة إنتاجية حرة، مثل الإمارات أو العراق، إلى السير على النهج نفسه، وهو ما سيعيدنا إلى أجواء "سباق الحصص" التي لطالما أربكت السوق في العقد الماضي .
وكل ذلك يحدث في ظل بيئة دولية هشة، حيث تواصل أسعار النفط تسجيل مكاسب، مدعومة بعدة عوامل جيوسياسية، من بينها العقوبات الأمريكية المحتملة على روسيا، والتصعيد في ملف أوكرانيا بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن استئناف شحن صواريخ باتريوت. هذه التطورات تعزز التوقعات بشأن فرض المزيد من القيود على صادرات النفط الروسية، مما قد يُحدث فجوة في الإمدادات العالمية، تدفع الأسعار نحو مزيد من الارتفاع. وفي رأيي، فإن أي اضطراب في الصادرات الروسية سيُقابل بردود فعل حذرة من الدول المستوردة، مما قد يدفعها لتسريع سياسات التحوط وتخزين النفط، وهو ما يُعيدنا مجددًا إلى دور الصين كمحرك خفي خلف تقلبات السوق.
ووسط هذه التقلبات، جاءت بيانات الميزان التجاري الصيني لشهر يونيو لتكشف عن فائض أعلى من المتوقع، بدعم من ارتفاع حاد في الصادرات. وهذا الأداء يُعزز التفاؤل بإمكانية تحسّن الطلب العالمي على النفط، لكنه يبقى محفوفًا بالمخاطر، لا سيما في حال استمرت التحديات الهيكلية داخل الاقتصاد الصيني نفسه. وهنا، أعتقد أن السوق تبالغ في تسعير هذا "الانتعاش التجاري"، حيث إن الأرقام الإيجابية قد لا تعني بالضرورة استدامة في الطلب على الطاقة، خاصة إذا ما كان جزء كبير من هذا الأداء مدفوعًا بدورات تصديرية قصيرة الأجل أو دعم حكومي استثنائي.
وفي النهاية، فإن الحديث عن احتمالية تعليق زيادات الإنتاج من قِبل أوبك+ في أكتوبر المقبل، يُظهر إدراكًا متأخرًا لحجم التحديات المقبلة، سواء من حيث ضعف الطلب أو من ناحية التخمة المحتملة في الإمدادات. لكن برأيي، هذا التحرك لوحده لن يكون كافيًا ما لم يترافق مع التزام صارم من جميع الدول الأعضاء، بما في ذلك السعودية، بإطار إنتاجي متماسك وشفاف. وإلا، فإن السوق قد تشهد عاصفة حقيقية تتغذى على مزيج من الإرباك السياسي، والطلب غير المستقر، والتخزين غير المُبرر، والإنتاج الخارج عن السيطرة.
لذا، أرى أن أسعار النفط ستبقى عرضة لتقلبات حادة في الأشهر المقبلة، مع احتمالية تصحيح هبوطي إذا تباطأت واردات الصين أو استمر ضعف الطلب العالمي، لكن أي تطور جيوسياسي مفاجئ قد يدفعها مجددًا نحو مستويات مرتفعة تفوق 75 دولارًا للبرميل. لذلك، تبقى السوق رهينة لخطى الصين والسعودية كلاعبين رئيسيين في توجيه الأسعار.
التحليل الفني لـ النفط الخام ( USOIL - WTI ):
يعكس الرسم البياني الفني للنفط الخام (USOIL) على الإطار الزمني 4 ساعات حالة من التماسك الأفقي في نطاق محدود بين مستويات الدعم 66.00 دولار والمقاومة 68.50 دولار للبرميل، مع محاولات فاشلة لاختراق القمة الأخيرة. ويُظهر السعر تذبذبًا واضحًا أسفل مستوى 0.236 من تصحيح فيبوناتشي، مما يدل على ضعف في الزخم الصعودي في الوقت الحالي، بالرغم من التماسك النسبي في الهيكل السعري. ويتوافق هذا التباطؤ الفني مع إشارات التشبع البيعي الظاهرة على مؤشر الاستوكاستيك، والذي يقترب من مستويات الـ20، مما قد يُمهّد لصعود تصحيحي إذا توافرت محفزات إيجابية.